وأمام المشاكل التي تطرحها مسألة التعايش، خصوصا احتجاجات العائلات، وبالنظر إلى النسبة المرتفعة للمنازل التي تأوي العاهرات، فقد اختار المجلس حلا توافقيا عن طريق إنشاء باب يفصل شطري الحي، خالقا بذلك فضاء مخصصا هو نوع من «الغيتو» للبغاء. وبذلك نشأ حي مخصص للـ «النساء العموميات»، معزول عن الفضاء العام. لنسجل أن هذا الحي كان يأوي العاهرات المسلمات واليهوديات في آن واحد.
وقد حدثت حالة مشابهة في المدينة السفلى، خلال شهر يناير 1872. حيث تم فتح درب محروق الكائن بحومة التنور التي تأوي عاهرات، تم فتح رأسه الثاني بعد انهيار جزء آخر من السور محاذ لسيدي بومنديل، خالقا بذلك وضعية تتعارض مع التنظيمات العرفية. ومن ثمة، كان الحل المقترح هو إعادة بناء جزء السور لإغلاق الدرب الجديد.
أمام قضايا أخرى أكثر تعقيدا، وجدت السلطات نفسها موزعة بين متطلبات متناقضة كما كان الحال في شهر يناير 1862: فبعد أن اضطرت السلطة لإسكان عاهرات في المنازل المجاورة للحي الأوروبي بمدينة بيزرطة، أظهرت [السلطة نفسها]، وفي آن واحد، عدم اكتراثها لما يمكن أن يترتب عن ذلك في حي يتردد عليه باستمرار ملاحون مسيحيون صيادو المرجان، وعجزها عن التحرك بكيفية أخرى، خاصة أن سكان الأحياء الأخرى للمدينة كانوا يرفضون قبول إقامة العاهرات بجوارهن. وفوق ذلك، فقد أكدت المراسلة الخاصة بهذه القضية أن حومة أربعة الكائنة على مقربة من الحي الإفرنجي كانت هي حيهم الأصلي، ملمحين بذلك - فيما يبدو - إلى ضرورة إعادة ترحيلهن إلى منطقتهن الأصلية.
يستخلص من مختلف الوثائق والمراسلات المذكورة سابقا أن السلطات كانت تواجه بعض الصعوبات في التحكم في حياة الترحّل التي كان يعرفها البغاء داخل المدينة. وقد كان اللجوء إلى إيواء العاهرات في أحياء خاصة، يُبَرَّرُ في حالات عديدة، بالعبارة التالية: «تبعا للقواعد العرفية الجاري بها العمل منذ سنوات عديدة»، والتي تعود إلى قواعد سلفية غير مدونة في نصوص مكتوبة.
كان البغاء دائما محصورا، مُجَمَّعا في فضاءات مغلقة، لكن هذا بالضبط هو ما كان يتيح له أن يحظى بالقبول في المدينة شريطة أن لا يستثمر الفضاء العمومي.
كان مجلس الشرطة البلدية والسلطات البلدية،، يتوصلان دائما، في حدود ما يملكان من وسائل ، إلى أشكال من التدخل والمصالحة فيجدان بذلك حلول للتسوية ترتكز على إعادة رسم الحدود الدقيقة بين العالمين داخل فضاء المدينة.
غير أن الوضع سيعرف، بمجيء الاستعمار، تصعيدا في اتجاه عجز معلن للسلطات البلدية عن التحكم في الوضع. ففي مراسلة مؤرخة في غشت 1882، موجهة للوزير الأول، عبر رئيس المجلس البلدي لتونس عن سخطه وعجزه، في آن واحد، أمام إنشاء أحد الفرنسيين لماخور في منزل يقع بزنقة المختار، اكتراه الأجنبي وسط المدينة، وقد عبر السكان في مرات عديدة عن استيائهم واحتجاجاتهم بدون جدوى[24]. لأول مرة استقر «المنزل المغلق»، على النمط الأوروبي، في مدينة تونس. وقد استعملت كلمة «ماخور» في الوثيقة، لتشير بذلك إلى أن الأمر يتعلق بحصول عدوان موصوف داخل المدينة.
ربما تعلق الأمر هناك «بالمنزل المغلق» الشهير، الذي سيعرف فيما بعد باسم «الدار الكبيرة»، الموجودة في الزنقة نفسها.
بتتبع مناطق انتشار البغاء وتجمعه، عن كثب، فإن المكانين الآخرين اللذين يلفتان انتباهنا هما المدينة السفلى في اتجاه الحي الإفرنجي ثم الحي اليهودي بتونس الذي يعرف باسم الحارة.
يبدو حي عبد الله الكرش (منطقة البغاء اليهودي) في الجدول الذي أقمناه لتوزيع قضايا الاعتقالات بحسب الأحياء، يبدو في موقع جيد، إذ كانت زنقة سيدي عبد الله الكرش تحتل المرتبة الثالثة خلال سنة 1861. وباعتبار هذا الحي أحد «الأمكنة العليا» للبغاء اليهودي، فإنه كان يقع بين الحارة والحي الإفرنجي. وفي هذا المكان كانت تتوظف المومسات من داخل المجموعة اليهودية الفقيرة بتونس.
بأهم الأزقة والدروب التي تأوي البغاء في هذه المناطق، يمكننا أيضا أن نذكر دروب المحروق، وسيدي بيان، وسيدي مردوم، وزنقة القرامد، ثم زنقة المكتار التي التحقت بها بعد وقت طويل.
كانت ضاحية باب السويقة تأوي في منطقتها الشرقية أحد أحياء البغاء المعروفة، ولو أن المصادر لا تشير إليه إلا في وقت لاحق، وهو زنقة سيدي بونعيم. ونجد اسم هذا الحي في وثائق نهاية القرن مرفوقا بمعلومات عن النساء اللواتي كن يسكن فيه. كان الوضع الخاص لهذا الحي - موقعه على حدود الحارة والضاحية - يفسر طبيعته المختلطة، حيث كانت تقيم فيه مسلمات ويهوديات في آن واحد.
كانت خصوصية هذه المناطق تكمن في تعددية الحانات باعتبارها الأمكنة المفضلة للفساد، واللقاءات ومواعيد الدعارة. وقد ساهم الحضور اليهودي - الأوروبي القوي انفتاح هذه الأحياء انفتاحا واسعا على استهلاك الخمر.
في نهاية القرن 18، كانت الـحانات في المدينة السفلى تعد بالعشرات. فحيّ سيدي القرامد الذي كان يشكل فضاء مسيحيا بهذا الجزء من المدينة، كان يتوفر بمفرده على 16 حانة سنة 1862[25]. ويستنتج من الأرشيفات التي اطلعنا عليها أن قضايا الاعتقال داخل الحانات ووفي ضواحيها كانت شائعة جدا. ففي يوم 18 يونيو 1861، تعرضت عائشة بنت محمد الصفاقسي للاعتقال في مدخل إحدى حانات الحي اليهودي، الأمر الذي جر عليها قضاء 14 يوم في الاعتقال[26]. وفي يوم 13 ماي من العام نفسه، اعتقلت عاهرتان مسلمتان في حانة قرب الخلادين[27].
وحتى المقاهي والفنادق والمخازن كانت تشكل نقطا مفضلة للاصطياد والفساد. والحالات المذكورة كانت شائعة: ففي يوم 10 يونيو 1861، تعرضت فاطنة بنت عمور الغربي للاعتقال رفقة عمور بلحاج جلول، وكانا سكرانين، داخل مقهى بصابة الملح[28].
ومن مجموع 62 محصورة، وقعت 9 منها، أي حوالي 5,14%، في فنادق ووكالات أو حانات، وهو ما يؤكد كثرة تردد البغايا على هذه الأماكن.
لكن جغرافية البغاء ولو أنها تتيح استخراج نقط قوية ومناطق للتركز، فإنها لا تعكس الواقع إلا جزئيا، إذ غالبا ما كان منزل اللقاءات الغرامية يكون معزولا في منأى عن أحياء البغاء المشهورة في المدينة وحتى داخل الضاحية.
وبخصوص سنة 1861 نفسها، استطعنا تحديد مواقع 5 منازل كانت تضرب فيها المواعيد مع أنها تقع في أحياء بعيدة عن معاقل البغاء. ففي يوم 18 اكتوبر 1861، اقتحمت الشرطة منزل ابن عائلة من الأعيان، اسمه يوسف جلولي، لاعتقال جماعة من المومسات والزبناء بعد أمسية من احتساء الخمر والتشاجر والعراك. وقد لقي صاحب المنزل حتفه على إثر سقوطه وهو يحاول أن يلوذ بالفرار[29].
يتيح توزيع فضاء المدينة استخراج ظاهرتين، هما التمركز والنزوع إلى التشتت.
كان الجسد الاجتماعي مسؤولا على نزعتين متعارضتين: فهو بنبذه العاهرات خارج الأحياء السكنية، كان يجبر السلطات على أن تتصور وتشغل - تدريجيا - سياسة العزل أو الحصر خالقا «الأحياء المخصصة»، لكن هذا الجسد الاجتماعي نفسه كان، بسبب حاجيات المجتمع الذكوري، يخلق الشروط المادية لاستقبال العاهرات في منازل سرية تضرب فيها المواعيد في قلب المدينة ذاتها.
كما كان البغاء يتمدَّد في الفضاء الحضري ويتقلص بحسب تقلبات الظروف والأوضاع ومبادرات السلطة.
لكن النزعة العامة التي نسجلها بالنسبة للنصف الثاني من القرن 19، والتي كانت تعبِّر عن واقع أن المجتمع الحضري وسلطته كانا يستقران في أزمة تتجاوز إمكانياتهما، تلك النزعة تظهر العجز الظاهر والمتزايد للسلطات العمومية عن تدبير ومراقبة هذه الفضاءات والقطاعات.
كانت استراتيجية العزل أو الحصر بالنتيجة المترتبة عنها، وهي الظهور التدريجي «للحي المخصَّص» بالمعنى العصري، تدل، في آن واحد، على أنَّ الظاهرة كانت تأخذ أبعادا من الكبر بحيث صار من المستحيل احتواء العاهرات داخل زنقات ودروب للتعايش مع باقي السكان. كانت الظروف الاجتماعية والسياسية في النصف الثاني للقرن 19 قد فرضت نفسها بما أتاح ظهور «الحي المخصَّص»، ثم ظهور «المنزل المغلق» أو الماخور، بعد بضع سنوات، مع الاستعمار تحديدا.
كانت الظروف قد نضجت، بشكل مفارق، في ظل سياسة أزمة التبعية، وإفقار المدينة (القديمة) التي وجدت نفسها تدريجيا منحطة ومهمشة بالمقارنة مع المركز الجديد الذي احتله المدينة الأوروبية.
كان تخصيص مدينة تونس بمؤسسات عصرية، كالمجلس البلدي أو الشرطة الحضرية، طريقة لتطابق مع الميولات المتفاعلة في اتجاه الحداثة والاعترف بأزمة المدينة التي أدت بعد سنوات إلى جعل شطرها القديم حاضرة، فضاء تاريخيا منحطا بجانب المركز الجديد الاستعماري الصاعد.
وهذا المركز بالضبط، الذي سيصير من الآن فصاعدا مركزا تاريخيا وهامشيا بشكل متزايد، في مجموعه، هو الذي كان سيحتضن الأحياء المخصصة التي سيحكمها، ابتداء من عام 1885، التنظيم البلدي الجديد حول الوقاية والأمكنة غير الصحية.
لقد وجدت نفسها هذه السياسة الرسمية تجاه البغاء، منذ منتصف القرن 19، مُكملها في سياسة الحكم نفسه تجاه ظواهر أخرى مثيلة، كأمكنة المتاجرة واستهلاك المشروبات الكحولية، ولعب القمار. إلى حدود منتصف القرن 19، كانت السلطة السياسية قد وصلت إلى ضمان نوع من التوازن بين متطلبات متناقضة والحفاظ على الأماكن والفضاءات المحفوظة لبيع واستهلاك الخمور والمشروبات الروحية في الحدود المقبولة. لكن هذه المراقبة صارت تدريجيا مستحيلة في النصف الثاني من القرن 19.
في زمن أحمد باي، كانت صرامة السلطات العمومية جلية في تحديد هذه الفضاءات والأمكنة التي يدبرها أوروبيون. لكن، بعد ذلك، مع رسوخ القوى الأوروبية وتزايد أعداد الأجانب في المدينة بعد الهجرة الكثيفة التي شهدها منتصف القرن، اجتاحت حانات بيع الخمور بالتقسيط جميع الأحياء، بالخصوص تلك التي تقع في ضواحي المدينة، إذ تجاوز عددها بكثير الحصة المتوقعة، كما صارت ألعاب القمار تجذب التونسيين بشكل متزايد في الحانات.
صارت مراسلة القناصلة والإعراب عن الاحتجاجات لديهم بدون نتيجة؛ فالشرطة الحضرية كانت إمكانياتها وقدراتها أقل من أن تسمح لها بالتحكم في الوضع. فالزواويون الذين كانوا ينظمون ألعاب القمار، كانوا محميين فرنسيين، وجغرافية الحانات وأماكن اللعب كانت موازية لجغرافية أحياء البغاء.
صارت سياسة التطويق والحصر في أماكن خاصة واضحة أكثر كما عرفت صياغة أفضل، لكن فعاليتها وإجرائيتها تناقصا بشكل متزايد. وبذلك، عبرت هامشية البغاء عن نفسها في فضاء المدينة وفي جغرافيتها، لكن الأمر لم يكن يتعلق إطلاقا بهامشية جامدة، ثابتة أو قارة. كانت هامشية متحركة، عبر الفضاء الحضري، تعيد إنتاج مختلف الظرفيات معبرة عن الشرط الاجتماعي لقطاعات أوسع داخل المجتمع المديني، وكذلك عن مختلف مواقف السلطات ومجموع الجسد الاجتماعي تجاه الظاهرة.
كيف كان هذا العالم يعيش يوميا؟ يجد السؤال جوابه في متابعة رحلتنا في قلب هذا العالم.
--------------------------------------------------------------------------------
هوامــش
[1] A. N. Font Zaptiés.
[2] انظر الجدول في الملحق، ص. 81.
[3] لتقدير عدد عاهرات تونس حوالي 1860، رجعنا إلى عدد 500، المقدم في الجزائر حوالي 1830 بحسب دشين. لقد ضاعفنا هذا العدد، مرتكزين على كون تونس كانت مدينة أكثر تفتحا من الجزائر وأكثر peuplé.
[4] انظـر:
- A. N. Registre 3968. Recensement des algériens installés à Tunis 1876.
[5] A. N. fonds Zaptiés année 1278 / 1861-62: Doc 105.
[6] P. Pellegrin, Les noms de rues du vieux Tunis, Tunis.
[7] Viviane Plâaques, L’arbre cosmique, Paris, 1964, p. 205.
[8] Viviane Pâques, L’arbre cosmique, Paris 1964, p. 205.
[9] Cf. Fonds Zaptié, op. cit.
[10] ابن أبي ضياف، إتحاف...، ج. 3، ص. 262.
[11] الصغير بن يوسف، المشرع الملكي في سلاطين أولاد التركي، الخزانة الوطنية، مخطوطة رقم 3537.
[12] لقد طبعت المغنية الشعبية الكبيرة "صليحة» الأغنبية التونسية بعد الحرب العالمية الثانية بالخصوص. تشكل أغنياتها بموضوعاتها كما بالصوت الذي يغنيها، الروح العميقة لتونس بألوانها ولويناتها الجهوية، قصصها وذاكراتها. وأغنية «مع العزابة (الواردة في ملحق الكتاب، ص. 79)، التي تعيد رسم هروب فتاة مع جماعة من الرعاة الرحل [تلك الأغنية] مستوحاة من الملحمة التراجيدية لقبائل جبل «وسلات»؛ راجع بهذا الصدد: الرزكي، الأغاني التونسية، (بالفرنسية).
[13] Emile Dermenghem, Le pays d’Abel, Paris 1960, pp. 67-70.
[14] انظر: الجدول رقم 1، بالملحق.
[15] A. N. T., Dossier 634, carton 58, Doc. 1.2.3.4.5.
[16] A. N. T., Fonds Zaptiés, année 1861.
[17] A. N. T, Fonts Zaptiés, op. cit.
[18] Heinrich Von Malzar, Reize in den Regeschaften Tunis und Tripoli (Leipzig 1870), t. 1, p. 26-27.
[19] راجع الجدول رقم 2 في الملحق.
[20] A. N. T., Dossier 634, Carton 58, Doc. 1.2.3.4.5.
[21] A. N. Fonds Zaptié. Dossier 4, Carton 2 (rapports du troisième trimestre ed l’année 1862, Doc. 95).
[22] A. N. Dossier 634, Carton 58, Document 1. 2. 3. 4. 5.
[23] A. N. Dossier 634, op. cit.
[24] A. N., Dossier 634, op. cit.
[25] A. N., Fonds Zaptié, Rég. 59.
[26] A. N., Fonds Zaptié, Dossier 1278, Doc. 105.
[27] A. N., Fonds Zaptié, Dossier 1278, Doc. 110.
[28] A. N., Fonds Zaptié, Dossier 1278, Doc. 111.
[29] A. N., Fonds Zaptié, (1861) Doc. 105.
ل
بلغ الادارة عن محتوى مخالف من هنا
ابلغون على الروابط التي لا تعمل من هنا