تحليل نسقي لقصيدة الزهد العتاهية
يذهب الألسنيون والأسلوبيون إلى أن الأسلوب ظاهرة ملازمة للعملية اللغوية، تتجذر في التعابير الإنسانية،ولها أثرها في القول،لا سيما النص المكتوب،نظرا لما يتمتع به من انتقاء التعابير،والقصدية في البث اللغوي،وهو يتجلى ابتداء من مستوى الجملة ويكشف عن ميزة صاحبه،كونه طريقة خاصة بالأديب أو الكاتب حسب نظر البعض. ويرى عدنان بن ذريل أن"الأسلوب هو الألق لقراءة الكاتب في كتابته،ويعود إلى الاختيارات التي يقوم بها المؤلف لمفرداته،وتركيبه فتصدم المتلقي بما فيها من انزياح عن جادة البيان العادية مما يؤكد أن الأسلوبية هي دراسة هذه الانزياحات،وإن تحايلاتها تطال اللفظ والمعنى على السواء".
وقد ذهب جاكوبسون إلى أنه لايمكن تعريف الأسلوب خارج الخطاب اللغوي كرسالة أو كنص يقوم بوظيفة تواصلية ابلاغية،مقصودة "وعلى هذه الشاكلة يكون الأسلوب هو الوظيفة المركزية المنظمة للخطاب،وهو يتولد من ترافق عملين متواليين في الزمن متطابقين في الوظيفة هما (الاختيار والتوزيع) اختيار المتكلم لأدواته التعبيرية من الرصيد المعجمي للغة،ثم تركيبها تركيبا يقتضي بعض قواعد النحو وغير ذلك.
والأسلوبية تصافح الملفوظات الأدبية في حسيتها المباشرة،فتكشف عن خصوصيتها وبالتالي فرادتها " ولا بد أن نشير "إلى أن الأسلوبيات في تطورها قد سلكت مسلكين أحدهما الاستقراء الذي أرسى قواعد ممارسة النصوص، فتألقت من ذلك مكونات الأسلوبيات التطبيقية، وثانيها الاستنباط الذي سوّى أسس التجريد،والتعميم،فاستقامت معه مكونات الأسلوبيات النظرية " ، ومن ثم ارتأينا أن نلج المعجم الذي تخيره أبو العتاهية، في معظم ديوانه الذي تميز وانفرد بصفة الزهد والوعظ والتذكر والتأمل وترك الدنيا ...وبما أن الوعظ ينطلق من الاتعاظ بآيات الخالق سبحانه،المجسدة في خلقه كعلامات سيميائية ودلالية، يقتضي ذلك من الواعظ أن يستند على حاسة الرؤية والنظر والاستبصار بالبصيرة. ومن هنا ينطلق أبو العتاهية في خطابه من حاسة النظر والمشاهدة قائلا:
ما لي رَأَيتُكَ راكِباً لِهَواكا أَظَنَنتَ أَنَّ اللَهَ لَيسَ يَراكاا
ِنظُر لِنَفسِكَ فَالمَنِيَّةُ حَيثُ ما وَجَّهتَ واقِفَةٌ هُناكَ حِذاكا
وَأَراكَ تَلتَمِسُ الغِنى لِتَنالَهُ وَإِذا قَنِعتَ فَقَد بَلَغتَ غِناكا
لَو كُنتَ مُعتَبِراً بِعُظمِ مُصيبَةٍ لَجَعَلتَ أُمَّكَ عِبرَةً وَأَباكا
ما زِلتَ توعَظُ كَي تُفيقَ مِنَ الصِبا وَكَأَنَّما يُعنى بِذاكَ سِواكا
قَد نِلتَ مِن شَرخِ الشَبابِ وَسُكرِهِ وَلَقَد رَأَيتَ الشَيبَ كَيفَ نَعاكاوَبَّختَ عَبدَكَ بِالعَمى فَأَفَدتَهُ بَصَراً وَأَنتَ مُحَسَّنٌ لِعَماكا
فأبو العتاهية واعظ ووسيلته في الوعظ هي النظر،فالعبرة بالنظر،وقد تخير لذلك من المعجم اللغوي ألفاظا مناسبة [رأيتك_ يراك_ أنظر_وجّهت_أراك_ العمى_ عماك _نرى]وقد شكل نسيج أبياته وفق هذه الوحدات،منقسمة بين الزمن الماضي، للدلالة على ما قد حصل وهو غير مرغوب[مالي رأيتك راكبا لهواك]
[أراك(رأيتك) تلتمس الغنى]وبين الزمن المضارع :
[أنظر لنفسك]
[أظننت أن الله ليس يراك]وفيها دلالة على التذكير ،والتنبيه من الغفلة،والوعي بالذات،وبالخالق الذي لايغفل لحظة .
ثم نجد أن نسيج النص ينبني في بعض لبناته على ثنائية ضدية تشكل تقابلات توحي بفكرة الإقصاء المنطقي ،والتعاكس أو التضاد الذي يجعل المتلقي يقبل على فكرة ،ولا يقبل على ضدها،مثل ما هو عليه الحال في قوله: خُذ مِن حَراكِكَ لِلسُكونِ بِحَظِّهِ مِن قَبلِ أَن لا تَستَطيعَ حَراكا[حراكك ≠ السكون] [حراكك ≠ لا تستطيع حراكا]فالحركة عكس السكون،ولما تكون الحركة قائمة فهناك إقصاء منطقي للسكون، والعكس صحيح كذلك،إذ عندما يؤول المرء للسكون الأبدي،فلا حراك ،حيث الحركة هنا وحدة سيميائية واسعة الدلالة، تشمل الحياة والحرية والشباب وما يرافق ذلك من العمل والسعي ومظاهر الحياة،ولو أتينا على بيت آخر من النص ذاته: يا جاهِلاً بِالمَوتِ مُرتَهَناً بِهِ أَحَسِبتَ أَنَّ لِمَن يَموتُ فَكاكا نكتشف أيضا تضادا آخر بين الوحدتين اللسانيتين:[مرتهنا ≠ فكاكا] إلا أن الشاعر استطاع أن يخلق ترادفا وتوافقا في المعنى بهاتين الوحدتين لما أخضعهما للتركيب اللغويالآتي: [مرتهن بالموت ≠ لا فكاك من الموت] وهي دلالات تثبت موقعها على المربع الدلالي (السيميائي)،كما قد اهتدى الشاعر إلى ثنائيات ضدية أخرى منها قوله: قَد نِلتَ مِن شَرخِ الشَبابِ وَسُكرِهِ وَلَقَد رَأَيتَ الشَيبَ كَيفَ نَعاكا[الشباب ≠ الشيب]وفي ذلك بيان للتغيير والانقلاب من حال إلى حال،والشيب مؤشر المرء على الزوال لما فيه من نبوءات توحي بالشيخوخة والإقبال على العجز والقصور وكل الصفات التي تجعل المرء يستفيق من سكر الشباب، وعلى غرار البيت السابق يأتي الشاعر ببيت آخر يجلي الرؤية أكثر باستعماله للثنائية الضدية،التي تشكل مركز العلامة السيميائية في القصيدة كما في الديوان بأكمله،حيث يقول: لن تَستَريحَ مِنَ التَعَبُّدِ لِلمُنى حَتّى تُقَطِّعَ بِالعَزاءِ مُناكاحيث يقابل بين:[التَعَبُّدِ لِلمُنى ≠ تُقَطِّعَ مُناكا ] وفيه استحالة انقطاع الأمل عند الانسان مادام فيه نبض من الحياة ،ولا يقطعه إلا الموت أو الحد الخفي(الأجل) الذي لا يعلم عنه المرء شيئا،وفي البيت تقاطع من حيث المعنى معحديث النبي الذي أخرجه البخاري،عندما يقول عبد الله (ض):"خط النبي خطا مربعا،وخط خطا في الوسط خارجا منه،وخط خططا صغارا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط،وقالهذا الإنسان،وهذا أجله محيط به،-أو قد أحاط به-وهذا الذي هو خارج أمله،وهذه الخطط الصغار الأعراض،فإن أخطأه هذا نهشه هذا،وإن أخطأه هذا نهشه هذا)". ففي هذه التعاكسات يتجلى مدى قوة البصيرة عند أبي العتاهية وقدرته على التأثير في نفسية المتلقي بضمير جمع المخاطب (أنتم البشر) من خلال مخاطبه بضمير المفرد المخاطب(أنت أيها الإنسان)،ليجعله أويجعلهم يقفون وقفة تأمّل وتروٍّ لمراجعة الذات وما يحيط بها من حال الدنيا وأحوال أهلها،الذين تنازعتهم الأهواء،فغفلوا عن ما يتربص بهم من مهالك الدهر،وأطلقوا لآمالهم العنان،حتى نسوا أنفسهم،ونسوا حظا مما ذُكّروا به،وهم في غفلة عن ذلك وانتشاء،لذا فهو يذكر بقوله: اِنظُر لِنَفسِكَ فَالمَنِيَّةُ حَيثُ ما وَجَّهتَ واقِفَةٌ هُناكَ حِذاكالَتُجهَزَنَّ جِهازَ مُنقَطِعِ القُوى وَلَتَشحِطَنَّ عَنِ القَريبِ نَواكايا جاهِلاً بِالمَوتِ مُرتَهَناً بِهِ أَحَسِبتَ أَنَّ لِمَن يَموتُ فَكاكا وبهذه التوبيخات نسج الشاعر خيوط قصيدته وحبكها حبكا فنيا متخذا منها مفاتيح علاماتية تضفي البعد الوعظي والزهدي على ديوانه الشعري كله، وقد نسقها تنسيقا أسلوبيا مازج بين الصوت الأخاذ،والتصاريف المتنوعة،والتراكيب اللغوية، و البنىالدلالية التي سنحاول أن نأتي على بعضها من خلال مسحة وجيزة .أولا: البناء الصوتي. يقف الشاعر موقف الخطيب الواعظ للإنسان بصيغة المفرد،مما يجعل أغلب ألفاظه تتأرجح بين المتكلم والمخاطب المفرد،وهو الأمر الذي يبرر كثرة وجود التاء(تاء المخاطب) وتاء المضارعة في أول كل فعل مضارع يخاطب به الشاعر مخاطَبه،[رأيتك، ظننت، وجهت، تستطيع، ضيعت، لتجهزن، تشحطن، تجري، تستقال، بلغت،ترجو،خلقت، تكذبن، حاولت، أحسبت، تبغه، جعلت، تلتمس، تناله، قنعت،كنت، توعظ، تفيق، نلت، تستريح،تقطع،وبخت،أفقدت ،تحرق،تنير،تعف،أعظمت،... ]وغير ذلك من التاءات الأصلية في الألفاظ الآتية: [الموت ،تلك ،التي،أنت،ليت،فتنة، ثقة،تعتبر،التعبد، عبرتنا،...] . هذا إلى جانب حرف آخر قد غزا القصيدة كلها،وتجلى انتشاره بقوة في كل أبياتها بدون استثناء،وهو حرف (الكاف) الذي استخدمه الشاعر للخطاب،ورصع به قافيته ليجعل منها كافية رائعة. ما لي رَأَيتُكَ راكِباً لِهَواكا أَظَنَنتَ أَنَّ اللَهَ لَيسَ يَراكاِانظُر لِنَفسِكَ فَالمَنِيَّةُ حَيثُ ما وَجَّهتَ واقِفَةٌ هُناكَ حِذاكاخُذ مِن حَراكِكَ لِلسُكونِ بِحَظِّهِ مِن قَبلِ أَن لا تَستَطيعَ حَراكاحيث تكرر حرف الكاف في النص أكثر من ستين مرة،عبر أربعة وعشرين بيتا فقط.
والتاء من الحروف النطعية(التي تنطق انطلاقا من خلف الثنيَتين العُلويتين في تجويف الحنك العلوي)، أما الكاف فمن الحروف اللهوية(التي تنطق من اللهاة) وكلاهما من الحروف اللمسية البسيطة،- حسب التصنيف الحسي للدكتور إحسان عباس-وأقلها تعقيدا، "والتاء قد قيل عنه مهموس انفجاري شديد،وقال عنه ابن سينا إن صوته يسمع عند قرع الكف بالإصبع بقوة)، وإن صوته المتماسك المرن يوحي بملمس بين الطراوة والليونة،كأن الأنامل تحس وسادة من قطن،أو كأن القدم الحافية تطأ أرضا من الرمل الجاف،وهكذا صنفت التاء في الحروف اللمسية،وبالرجوع إلى المعجم الوسيط يقول إحسان عباس:عثرت على مائة مصدر جذر تبدأ بالتاء مما هو غير مولد أو معرّب أو دخيل،كان منها عشرون مما تدل معانيها على الرقة والضعف والتفاهة، ومنها تك الرجل (حمق)، تره (وقع في الترّهات)، وكان منها ستة وعشرون دلت على الشدة والغلظة والقساوة وكل ما يتنافى مع الرقة والضعف،والتي منها تبَّ الشيء (انقطع)،تبَّر(هلك)، تبل فلان(ثأر منه) ترَز لحمه (صلب وغلظ)،وقد اقتصرت معاني المصادر المتأثرة بخصائص هذا الصوت على الضعف والرقة والتفاهة بنسبة ثمانية وثلاثين بالمائة، مما يقطع بأن التاء ضعيف الشخصية. أما عن المصادر التي تنتهي بحرف التاء، فإن المعجم الوسيط يحتوي على سبعة وتسعين مصدرا، منها ثلاثة وعشرون تدل على الضعف والرقة والتفاهة،على نحو: خبت(خفي)،قنت (أذعن لله)، هيت(لان واسترخى) . ومنها واحد وثلاثون مصدرا دلت على معانيها على الشدة والقوة والقساوة والغلظة مما يتنافى مع خصائص حرف التاء،والبروز بخصائص الحروف القوية المشاركة له في نسج المصدر :بت الشيء(قطعه)، كتت القدر(صوتت غليانا)، وهكذا فإن حرف التاء في آخر المصادر لم يكن له تأثيره فيها من حيث المعنى ، وبالتالي يتأكد أنه ضعيف الشخصية. ومنه نجد توافقا للدراسة الصوتية لحرف التاء،وبين وجوده بكثرة في كافية أبي العتاهية التي بين أيدينا، إذ نجده يضفي على معانيها ذات الصفات والسمات الدلالية، التي نجدها منطبقة تمام الانطباق على شخص المخاطب،الذي يخاطبه أبو العتاهية: ما لي رَأَيتُكَ راكِباً لِهَواكا أَظَنَنتَ أَنَّ اللَهَ لَيسَ يَراكااِنظُر لِنَفسِكَ فَالمَنِيَّةُ حَيثُ ما وَجَّهتَ واقِفَةٌ هُناكَ حِذاكافالمخاطب ضعيف الشخصية،واه وتافه غير واع بما يحدق به من خطر الموت الذي يتربص به في كل حين ونمن كل جانب،غير مدرك لما ينتظره من مهالك ،مع يقينيه أنه سيسكن يوما من غير حراك وإلى الأبد،ومع ذلك لم يدّخر لذلك اليوم ذخره. ثانيا: حرف الكاف. وصوته"يوحي بشيء من الخشونة والحرارة والقوة والفعالية،مما يؤهله إلى حاسة اللمس، إذا لفظ بصوت عالي النبرة وبشيء من التفخيم والتجويف، فإنه يوحي بالضخامة والامتلاء والتجميع ،مما يؤهله إلى زمرة الحروف البصرية" . وبالعودة إلى المعجم السالف الذكر،وجد إحسان عباس مائة وستة وثمانين مصدرا تبتديء بحرف الكاف،حوالي الربع منها تدل على الشدة والفعالية،مثل: كده(طرده)،كعبره (قطعه)... وحوالي الربع أيضا دلت معانيها على الكثرة والضخامة والتجميع،نحو: كسب(جمع)، كطب(امتلأ سمنا)،كبر، كمل،...وبالرجوع إلى المصادر التي تنتهي بحرف الكاف،فهي أربعة وثمانون مصدرا،منها الربع كذلك دل على الاحتكاك مثل : لك الفرس اللجام(علكه ومضغه)،حك،دعك،دلك شبك، شك(ألصق بعضه ببعض)، عرك،معك(دلك)،وكان ما يزيد عن السدس دالا على الشدة،نحو بتك(قطع)،دك ،صك،وغيرها. بذلك يرى إحسان عباس أن حرف الكاف متزن الشخصية،لكونه قد فرض ذاته بنسبة تفوق الخمسين بالمائة سواء في المصادر التي جاء في أولها،أو المصادر التي جاء في آخرها، وإذا ما تم إسقاط صفات حرف الكاف كصوت بطبقته اللمسية على البعد الدلالي للقصيدة التي بين أيدينا نجد أنه ينسجم مع شخصية المرسل،المتزنة التي تحاول التأثير في شخصية المرسل إليه،المهلهلة الضعيفة. وإذا ما عدنا إلى الصوت في النص وجدناه متنوع المبنى والمعنى وما يلفت الانتباهأكثر هو ذلك التكرار المنتظم الذي شكل ظاهرة أسلوبية ميزت النص بخاصيتين دلاليتين غالبتين،ومتعاكستين،تعلقت الميزة الأولى بالمرسل وكانت الشدة والقوة والاتزان, بينما تعلقت الثانية بالمرسل إليه،وكانت الضعف،والتفاهة.وقد عبرت المقاطع الصوتية عن نغمة خاشعة حزينة متروية، آملة وحادة ،تنوعت خلال النص وفق ما يقتضيه تآلف الأصوات والكلمات بين مقاطع طويلة مفتوحة أخرى مغلقة،فمن الطويلة المفتوحة:[ما (مالي)–را(راكبا)-وا(واقفة)-كو(يكون)-لا-دا(ناداك)-قا(تستقال)- عا(دعاك)-يا- جا(جاهلا)]...وهي عينة مقتطفة من الأبيات الستة الأولى، وفيها أيضا من المقاطع المغلقة :[أيْ-ليْ-إنْ-نفْ-خذْ-منْ-قبْ-أنْ-تسْ-موْ-للْ-مزْ-قدْ-بْي-فقْ]وقد جسدت الهم الذي يخمله المرسل(الواعظ أو الداعية)ومدى ثقل مسؤوليته،تجاه الضياع والانحراف عن جادة الصواب،والفطرة التى جبل عليها الإنسان وتلقى قصادها تعاليم الخالق سبحانه وتعالى،ولننظر قوله:ما لي رَأَيتُكَ راكِباً لِهَواكا أَظَنَنتَ أَنَّ اللَهَ لَيسَ يَراكااِنظُر لِنَفسِكَ فَالمَنِيَّةُ حَيثُ ما وَجَّهتَ واقِفَةٌ هُناكَ حِذاكالَتُجهَزَنَّ جِهازَ مُنقَطِعِ القُوى وَلَتَشحِطَنَّ عَنِ القَريبِ نَواكايا جاهِلاً بِالمَوتِ مُرتَهَناً بِهِ أَحَسِبتَ أَنَّ لِمَن يَموتُ فَكاكاوَأَراكَ تَلتَمِسُ الغِنى لِتَنالَهُ وَإِذا قَنِعتَ فَقَد بَلَغتَ غِناكالَو كُنتَ مُعتَبِراً بِعُظمِ مُصيبَةٍ لَجَعَلتَ أُمَّكَ عِبرَةً وَأَباكاما زِلتَ توعَظُ كَي تُفيقَ مِنَ الصِبا وَكَأَنَّما يُعنى بِذاكَ سِواكاوما زاد النص روعة صوتية،هو قيامه شكلا متوازنا على بحر عروضي واحد من أوله إلى آخره،وهو البحر الكامل بتفعيلاته:مــالي رأيتك راكبـا لهواكا أظـننت أن اللـه ليس يراك/0/0//0.///0//0.///0/0 ///0//0./0///0.//0/0متفاعلن متفاعلن متفاعل متفاعلن متفعلن متفعلوقد تحاشى الشاعر كل انتهاك لقواعد النصوص الشعرية التقليدية،أو الجوازات العروضية بما لا يدع مجالا للشك في أن النص خال من أي عدول أو انزياح من حيث الشكل،يزيد أو يوقد شعريته ،لذا فهو يتميز بالبساطة والوضوح الصوتي لتسهيل تلقف المعاني سيما وأن النص إبلاغي بالدرجة الأولى،غايته الوعظ،والتذكير ،والترهيب من جزاء يومئذ.
وذلك مما يكنه النص من مستويات التفاعل بين الصوت والدلالة،وما يربطهما أو يجمعهما من العلاقة السيميائية التي يمكنها أن تفصح عن الكثير من الإيحاءات الدلالية المختفية وراء النبرات. وبالإضافة إلى ذلك كله،فهناك إيقاعات موسيقية عذبة يحدثها تكرار العديد من الألفاظ في خضم القصيدة،كلفظة(حراك) في البت الثالث:خُذ مِن حَراكِكَ لِلسُكونِ بِحَظِّهِ مِن قَبلِ أَن لا تَستَطيعَ حَراكاوتكرار لفظة داع ،دعاك في البيت الرابع:لِلمَوتِ داعٍ مُزعِجٌ وَكَأَنَّهُ قَد قامَ بَينَ يَدَيكَ ثُمَّ دَعاكاوتكرارات أخرى مثل:[مدى –مداك ،الغنى –غناك،أبواك-أبواكا،معتبرا-عبرة]في الأبيات التالية:وإلى أي [مدى] تجري وتلك هي التي لا تستقال إذا بلغت [مداكا]أراك تلتمس[ الغنى] لتناله وإذا قنعت فقد بلغت[ غناكا]ولقد [مضى] [أبواك]عما خلّفا و[لتمضين] كما [مضى] [أبواكا]لو كنت [معتبرا] بعظم مصيبة لجعلت أمّك [عبرة] وأباكا. ثانيا: البنية الصرفية(المورفولوجية).
مما لا شك فيه هو أن الوحدات الصرفية بنسيجها تشكل دلالات عميقة، وإيحاءات بلاغية، من منطلق كونها وسائل لغوية تتمتع بقدرة عالية على التوزع والانتشار،بالاستناد إلى بعضها البعض،مشكلة ذلك التنوع الدلالي بين الدوال والمدلولات.
وقد انتشرت الوحدات الصرفية الفعلية في النص بشكل ملحوظ،وإذا ما استثنينا أدوات الربط وغيرها من الحروف،نجد أن الأفعال تشكل نسبة معتبرة بين وحدات النص الكلية
،[رأيتك-ظننت-يَراك- اِنظُر- وَجَّهتَ- خُذ- تَستَطيعَ- قامَ- دَعاك-َتُجهَزَنَّ-َتَشحِطَنَّ-َيُسلِمَنَّ-بَكاك- تُستَقالُ- تَجري-حَسِبتَ- يَموتُ- حاوَلتَ-َبَغاك-جَعَلتَ-كَفى- توعَظُ....]وإن دل ذلك على شيء إنما يدل على الحركة والدينامية داخل الزمن بين الماضي والحاضر والمستقبل،هذه الدينامية التي تستجيب للتشكيل المشهدي في النص،والتنقل من حال إلى حال،أو من وضع إلى وضع آخر.
- مشهد أول: ما لي رَأَيتُكَ راكِباً لِهَواكا ؟ المرسل يتساءل وهو يرى المرسل إليه غارقا في اللهو وقد تنازعته الأهواء. - مشهد ثان: اِنظُر لِنَفسِكَ فَالمَنِيَّةُ حَيثُ ماوَجَّهتَ واقِفَةٌ. المرسل ينبه إلى كمين لابد من الوقوع فيه حتما.- مشهد ثالث: خُذ مِن حَراكِكَ لِلسُكونِ بِحَظِّهِ . المرسل يعظ ويوجه إلى النجاة،قبل الهلاك .ينبه المرسل المرسل إليه إلى التحول الحتمي،من الحياة إلى الموت،وهو انتقال من مشهد حركي حيث الحرية والعبث...،إلى مشهد السكون بلا حراك،والعجز بعد مفارقة الروح للمادة، التي يعافها الأحبة يومئذ،ويسارعون إلى دسها و إخفائها في الترب. هذه التصاريف هي التي تضفي تنوعا خياليا يصور مشاهد ذهنية لدى المتلقي، يمكنها أن تكون مؤثرة فيه شديد التأثر،وتزيد من انفعالاته،وبالتالي تغير من سلوكياته. وفي النماذج صيغ أسهمت في تبيين حال المخاطب المزرية،من اتباع للهوى والضلال عن الجادة ،[مالي رأيتك؟- أظننت ؟ - انظر ] في قوله: ما لي رَأَيتُكَ راكِباً لِهَواكا أَظَنَنتَ أَنَّ اللَّهَ لَيسَ يَراكاِانظُر لِنَفسِكَ فَالمَنِيَّةُ حَيثُ ما وَجَّهتَ واقِفَةٌ هُناكَ حِذاكا فقد انطلق أبو العتاهية من الأسلوب الاستفهامي،بواسطة التساؤلات التي طرحها على المخاطب،ثم يرقى إلى الأمر من قبيل النصح،[خذ- لا تستطيع- انظر لنفسك]في قوله: خذ مِن حَراكِكَ لِلسُكونِ بِحَظِّهِ مِن قَبلِ أَن لا تَستَطيعَ حَراكا يستمر في الرقي والتدرج إلى أسلوب يدعم به نصحه،لعل المخاطب يتدارك مافات وضاع منه،وذلك عن طريق الوحدات الفعلية[ضيعتها، تجهزن، تشحطن، يسلمنك،لن تستريح ،تقطع،لجعلت،..] أنظر قول الشاعر: وَلِيَومِ فَقرِكَ عُدَّةٌ ضَيَّعتَها وَالمَرءُ أَفقَرُ ما يَكونُ هُناكالَتُجهَزَنَّ جِهازَ مُنقَطِعِ القُوى وَلَتَشحِطَنَّ عَنِ القَريبِ نَواكالاسلِمَنَّكَ كُلُّ ذي ثِقَةٍ وَإِن ناداكَ بِاِسمِكَ ساعَةً وَبَكاكالَن تَستَريحَ مِنَ التَعَبُّدِ لِلمُنى حَتّى تُقَطِّعَ بِالعَزاءِ مُناكا. فقد دلت معظم الوحدات الفعلية بتصاريفها المتنوعة وفق محور الزمن،على نمط من النفس البشرية الأمارة بالسوء،وفي المقابل هناك نفس مطمئنة تسعى لإنقاذ الأولى بالوعظ، متوسلة بمعجم الألفاظ(الوحدات الفعلية)المنسجم مع الحقل لدلالي للغرض،والتي منها :[تعف-تكف-نلت-تستريح-تلتمس- حاولت-تجري-ترجو- خلقت-ظننت-ضيعت-توعظ-تفيق ]كما في قوله:ما زِلتَ توعَظُ كَي تُفيقَ مِنَ الصِبا وَكَأَنَّما يُعنى بِذاكَ سِواكاوَمِنَ السَعادَةِ أَن تَعِفَّ عَنِ الخَنا وَتُنيلَ خَيرَكَ أَو تَكُفَّ أَذاكا وإلى جانب الوحدات الفعلية ذات الدلالة العميقة،تبدو الوحدات الإسمية التي تشكل القدر الأكبر من حيث الكم،وفي ذلك دلالة على الثبات ووصف الحال، وعن طريق ضمير المتكلم وضمير المخاطب (أنت) الذي يمكن أن يمثل جمعا من المخاطبين، يخترق المرسل من خلاله إليهم واعظا ومنبها ومحذرا كما في قوله: ما لي رَأَيتُكَ راكِباً لِهَواكا أَظَنَنتَ أَنَّ اللَهَ لَيسَ يَراكا وفي موقف حازم ومسؤول يبث المرسل خطابه إلى مخاطبه،متجردا من كل العواطف التي لامجال لها مع الجد والحزم،عندما يكون المرء على مرمى حجر من التهلكة،وقد اختار المرسل من الوحدات الإسمية ما يغني به حقله الدلالي (معجم الوعظ) وينسجم مع مهمته الوعظية،[هواك-الله –نفسك-المنية-واقعة-حراك-السكون-جاهلا-مداك-الخلود-مرتهن-فكاك-احتيال-فقرك...] فهو يقول:خُذ مِن حَراكِكَ لِلسُكونِ بِحَظِّهِ مِن قَبلِ أَن لا تَستَطيعَ حَراكالِلمَوتِ داعٍ مُزعِجٌ وَكَأَنَّهُ قَد قامَ بَينَ يَدَيكَ ثُمَّ دَعاكايا جاهِلاً بِالمَوتِ مُرتَهَناً بِهِ أَحَسِبتَ أَنَّ لِمَن يَموتُ فَكاكاوبذلك يرسم للإنسان مخطط كيانه الحتمي كإنسان ،الذي لا فكاك له منه ولا محيد.حركة (عمل) سكون حركة (جزاء)
حياة دنيوية موت حياة أبدية حيث الحركة الأخيرة مرتهنة بالحركة الأولى،والجزاء من جنس العمل،فالعمل بعمل أهل النعيم مع ما يرافقه من الصعاب التي تستدعي الصبر، جزاؤه النعيم الأبدي،أما العمل التافه آني وممتع ولكنه مهلك،ولا يدرك كنهه إلا ذوي البصائر النافذة،والذين نحسب أبا العتاهية منهم،أنظر لقوله:خُذ مِن حَراكِكَ لِلسُكونِ بِحَظِّهِ مِن قَبلِ أَن لا تَستَطيعَ حَراكاوَإِلى مَدىً تَجري وَتِلكَ هِيَ الَّتي لا تُستَقالُ إِذا بَلَغتَ مَداكاوَلَقَد مَضى أَبَواكَ عَمّا خَلَّفا وَلَتَمضِيَنَّ كَما مَضى أَبَواكا وهذا القول يتناص مع أحاديث نبوية كثيرة،ليس هذا موضع ذكرها،مما يؤكد روح الخطاب الدينية والعقائدية،ونستطيع توزيع الوحدات اسمية وفعلية،وفق الترسيمة السابقة داخل الجدول الآتي:
حركة دنيوية سكون حركة أبدية
راكبا –هواك-حراككظننت-نفسك-نرجوخلقت-جاهلا-تكذبنرزقك-دينك-الرزقبغاك-عرضك-المطامعفتنة-الغنى-تلتمس-تنالتوعظ-تضيق-زرت-الشباب-سكره-المنى-تعف الخنا-تكف-أذاك. المنية-السكون-لا تستطيع حراكا-للموت-منقطع
القوى-تشحطن-تستقالمداك-بالموت-يموت-هلاكا- مضى أبواك-يقطعالعزاء-الخطوب-لتمضينرحاك-تحرق... يوم فقرك-أفقر ما يكونالخلودالسعادةعدّة...
لقد أكثر المرسل من الوحدات التي يصف ويشخص عن طريقها حال المرسل إليه،وهو في غفلة من أمره ،باحثا عن المتع والشهوات،ليقارعها بسيل من الوحدات المضادة التي ينبه من خلالها مخاطبه إلى الزوال والفناء والموت الحتمي لعله يعتبر،وكأنه يريد أن يقول:لماذا تشغل نفسك بدنيا لن تدم ؟،ولو أنها دائمة لدامت لغيرك ممن سبقوك،كما في قوله:وَلَقَد مَضى أَبَواكَ عَمّا خَلَّفا وَلَتَمضِيَنَّ كَما مَضى أَبَواكالَو كُنتَ مُعتَبِراً بِعُظمِ مُصيبَةٍ لَجَعَلتَ أُمَّكَ عِبرَةً وَأَباكا المرسل يريد تحميل المرسل إليه،رسالة واضحة،غير مسننة،تفاصيلها تكرر كل لحظة في الزمن الذي يحياه البطل إن صح التعبير،باعتبار أن أحداث المسرحية كلها تدور حوله بلا منازع،وهو مخير بين أن ينتصر أو ينهزم من المنظور (العتاهي) أو المنظور الديني،حيث إن أبا العتاهية يريد من المتلقي أو الإنسان أن يتورع ويزهد في الدنيا، ويرضى بقسمته ويتخذ من الدين ملجأ وملاذا ومعينا في زهده.حاوَلتَ رِزقَكَ دونَ دينِكَ مُلحِفاً وَالرِزقُ لَو لَم تَبغِهِ لَبَغاكاوَجَعَلتَ عِرضَكَ لِلمَطامِعِ بِذلَةً وَكَفى بِذَلِكَ فِتنَةً وَهَلاكاوَأَراكَ تَلتَمِسُ الغِنى لِتَنالَهُ وَإِذا قَنِعتَ فَقَد بَلَغتَ غِناكا ولم يلجأ المرسل إلى أسلوب الترهيب،أو الوحدات المعجمية التي تدل على العذاب والحساب والعقاب الأخروي،غير التراكيب(يوم فقرك-عدّة-أفقر ما يكون) وفي ذلك دلالة على أن وعظيات الشاعر لمخاطبه ليست من أجل إنقاذه من الهلاك والأخذ بيده إلى طريق النجاة، بقدر ما فيها من الإيحاءات إلى العزوف عن الدنيا والزهد فيها،كما لو أنه قال :لماذا الحياة ،مادام بعدها موت ؟لَتُجهَزَنَّ جِهازَ مُنقَطِعِ القُوى وَلَتَشحِطَنَّ عَنِ القَريبِ نَواكاوَلَيُسلِمَنَّكَ كُلُّ ذي ثِقَةٍ وَإِن ناداكَ بِاِسمِكَ ساعَةً وَبَكاكاوَإِلى مَدىً تَجري وَتِلكَ هِيَ الَّتي لا تُستَقالُ إِذا بَلَغتَ مَداكا
كما جاءت الوحدات الإسمية في معظمها معارف منها المعرف بأداة التعريف (أل)مثل [القوى-القريب-الموت-المرء-الخلود-الحشا- الرزق-المطامع-الغنى- الشباب-الشيب-التعبد-المنى-العزاء-العمى-المصباح- السعادة-الخنا- الصبا الخطوب-القرون... ]ومنها ماهو معرف بالإضافة،مثل:[نفسك-حراكك-يديك-فقرك-نواك-اسمك-مداك-احتيالك-رقاك-رزقك-دينك-عرضك-غناك-أبواك-أباك-مناك-عبدك-أمك-عماك-أذاك-رحاك...]مما ينبئ أن موضوعة النص شاخصة بين يدي المرسل ومدركة ومخصوصة،والمرسل إليه ماثل في شكل واقع معيش، مما يضفي على الخطاب نوعا من الجدية والحزم، والقصدية، والابتعاد عن التعميم. وقد عبرت هذه الأنسجة الأسلوبية عن تقاطع الدلالات في ثنائيات ضديةحياة،موت)و(حركة ،سكون)و(فقر،غنى)و(الشباب،الشيب) . ثالثا: البناء التركيبي.إذا ما قرأنا النص يلفت انتباهنا بتقاطيع أحدثتها الجمل أو الوحدات الكبرى، التي تنوعت بين الطويلة،والقصيرة حسب مقتضيات الحاجة، وقد تخللتها أساليب تعبيرية متنوعة تراوحت بين الاستفهام، الطلب، الخبر، النداء، الشرط والنفي، وكل ما يتطلبه الوعظ والإرشاد من الأساليب. =
بلغ الادارة عن محتوى مخالف من هنا
ابلغون على الروابط التي لا تعمل من هنا